ما أن نسمع كلمة “النّصر” حتى ننظر للبعيد.. نغرق في أحلامنا، نعدّل من جلستنا، وربما نقطب وتتغير نبرتنا، تختلط بالشوق والاثارة والألم، نتسابق في طرح نظريات النصر، ومهما اختلفت، كثيراً ما تتفق أفعالنا بأن الانتظار المجرّد هو الحل، فالوضع أصعب من أن يثمر فيه أي زرع.
ننتظر المخلّص، وفي معتقداتنا على تنوّعها نرى الرّجل القوي الشجاع القادم من المجهول والخارج من العدم، يجمع أهل الحق ويقضي بهم على أهل الباطل، هو الإمام أو المسيح أو المهدي، هو صلاح آخر أو أحد أحفاد صقر قريش.. سيأتي هذا القائد لينتشل الأمّة من حضيضها ويسمو بها.
نظن أن النصر هو قرار يُصنع وطريقٌ يُفتح بفعل مجهول، وتلتزم به الجماهير الغفيرة ونمضي جميعاً نحو النصر. النصر بالنسبة لنا حلم وننتظر بفارغ الصبر أن نستيقظ يوماً فنراه واقعاً، دون أن ندري كيف. النصر في ثقافاتنا أغان وأناشيد، وطيفٌ غير واضح المعالم، وزائرٌ هجرنا منذ زمن.
ولكن لعلّ النّصر مختلف عن كل ذلك، علّه كائن متناهي الصغر كفايروس على حافة الحياة، لا قدسية له ولا رهبة، ومحالٌ أن نترك للفايروسات مكاناً بين أحلامنا العظيمة وأن تشوّش على انتظارنا للقائد الجبّار!!
لعلّ النصر أعجز ممّا نظن إلا إن وجد خلايا يمكنه التكاثر فيها، خلايا كائن حي. ولعلّنا ننفر من حملته على أنّهم مرضى، لهم هلوساتهم وقناعاتهم بأن لكلّ صيحة صدى وإن لم تلتقطه آذاننا، وأنّ لكل فعل رد فعل، وأن رفّة جناح فراشة قد تبني حضارات وتهدم أخرى. هم مرضى لاشك تنتشر في خلاياهم فايروسات لا نريدها، رغم أنها أفضل الطرق لتغيير المورثات، الفكرية والاجتماعية والثقافية، عند البشر.
النصر يبدأ صغيراً جداً، أحلامنا الكبيرة قتلتنا، ولهفتنا لرؤية نتائج أفعالنا أقعدتنا. عامل الزمن ضروري، لا يمكن أن تحصد مهما زرعت من بذور مالم تنتظر موسم الحصاد، هذا من السنن الكونية، الانتظار، لا يمكن أن تشهد ذلك النصر المبين بعد أسابيع او أشهر أو سنين، تحتاج لعقود طويلة، ولأجيال تبدأ التغيير وهي توقن أنّها لن يكون لها نصيبً فيه، ستفنى وربّما لن تُذكر، ولكن يكفيها لذّة ايمانها بدورة التاريخ، وأنّها تشارك آلاف الجهود الصغيرة لصناعة عالم أفضل.
نحن مهووسون في فتوحات البلاد وانتظار قائد الأمّة وصناعة المعجزات، في حين أن تحفيز سكّأن حي واحد لحملة تنظيف قد يكون أكثر فائدة من كل ذلك. نحن مهووسون ببناء الدول، ولعلّنا أن ننظّم ورشة تعليم لبضعة أفراد يكون أجدى وأنفع، نحن مهووسون بالأحلام الكبيرة، نطلقها فتأسرنا ونغدو عبيدها لا نقوى على الحركة.
النّصر ليس في الأفق، النصر يبدأ من مكانك، من أفعالٍ صغيرة لا نلقي لها بالاً ونبالغ في احتقارها، دع الأفق يا صاحبي، فالنصر يبدأ من تحت أقدامك، من مكانك، فكم ستنتظر حتى توقن أنّك أنت.. أنت الأفق..
July 14th, 2014 at 9:37 am
“النصر يبدأ صغيراً جداً، أحلامنا الكبيرة قتلتنا، ولهفتنا لرؤية نتائج أفعالنا أقعدتنا”
تدفعني هذه الجملة لأعيد حساباتي وترتيب أولوياتي، فعلًا الأحلام الكبيرة محبطة ومثبطة، يجب علينا أن نفكك الحلم الكبير لأجزاء صغيرة تتناسب مع قدراتنا المحدودة، نتم هذه الأجزاء التي فيما بعد ستشكل بالتحامها واقعًا أجمل وأكثر سعادة.
شكرًا، مقال رائع :)
July 14th, 2014 at 8:51 pm
شكراً لك :)
July 15th, 2014 at 4:36 am
[…] المصدر […]
July 16th, 2014 at 12:44 am
نحن مهووسون في فتوحات البلاد وانتظار قائد الأمّة وصناعة المعجزات، في حين أن تحفيز سكّأن حي واحد لحملة تنظيف قد يكون أكثر فائدة من كل ذلك. نحن مهووسون ببناء الدول، ولعلّنا أن ننظّم ورشة تعليم لبضعة أفراد يكون أجدى وأنفع، نحن مهووسون بالأحلام الكبيرة، نطلقها فتأسرنا ونغدو عبيدها لا نقوى على الحركة…. نعم هذا ما نجده في حياتنا اليومية .. مجتمعنا يحب التطبيل و التزمير أما في الافعال فإننا نتكاسل في القيام بأبسط الأمور .. هناك مشكلة في العقل الجماعي ان صح التعبير مشكلة مع اللغة ربما , هوس بالمظاهر , هوس بضجيج لا يسمن و لا يغني من جوع , هوس بالأصوات العالية التي تخفي صوت الحقيقة … رياء و كسل جماعي
July 17th, 2014 at 10:20 pm
درب التغيير طويل، ومشكلتنا الكبرى في ثقافتنا
July 22nd, 2014 at 11:54 am
اللمسة السحريّة في “كن فيكون” هو ما ننتظره دوما من خالق الكون. يدهشنا المشهد اللاهوتي في الخلق و نبحث عنه في كل جانب…
تعجبني روحك المثابرة صديقي.. أتمنى لك التوفيق و الثبات
July 24th, 2014 at 9:02 pm
تسلم أحمد العزيز وبتمنّى تكون كل أمورك بخير