ورقة صادرة عن مركز الشرق للبحوث
فريق البحث: د. سمير التقي، حسام ميرو، إبراهيم الأصيل، منير الريّس
شكّل استخدام قوات الأسد للكيماوي في ضرب المدنيين في ريف دمشق منعطفاً بالغ الأهمية في وضع الأزمة السورية ومسارها. فبعد أن كانت أزمة داخلية تتجه نحو حرب أهلية بدأت تتخذ أبعاداً إقليمية ودولية.
أصبحت المعركة السورية الساحة الرئيسية التي يتبلور فيها صراع سياسات كبرى للدول فيما يتعلق بمنطقة الشرق الاوسط، وتتحدّد من خلالها قدرة كل طرف على المناورة، وحاجته لها، لكن لم يصل الحال إلى ما هو عليه الآن فجأة.
من المعلوم أن أوباما في الأشهر الأخيرة تعرّض لعدد من الضربات الرئيسية نسفت عملياً أسس سياسته، وأهم تلك الضربات:
-
أولًا: ثبوت الموقف المناور لبوتين فيما يتعلق بإدارة الأزمة السورية، فبوتين كان عملياً يتلاعب على أوباما، بهدف إعطاء ايران وحزب الله وبشار فرصة للانتصار.
-
ثانياً: فشل أوباما في الاعتماد على الإخوان المسلمين في إدارة تداعيات الربيع العربي، وسقوط نظام مرسي في مصر.
-
ثالثا: فشل كل من تركيا وقطر في أن تلعبا دور الدول الإقليمية المنتدبة أمريكياً لإدارة تداعيات الربيع العربي على المستوى الإقليمي.
-
رابعاً: حتى أولويات أوباما فيما يتعلّق باحتواء الصين عن طريق التحالف مع روسيا بدت استراتيجية مهزوزة.
إنّ أوباما في وضع صعب جدّاً نتيجة أنّه لم يهيئ الرّأي العام أو التحالفات في الكونجرس حول توافق يتعلّق بتغيير أساسي في المنطقة بالاستناد لاستخدام السلاح الكيماوي، ولذلك بدا أن أوباما أصبح لا يعوّل في انقاذ مستقبله السياسي ومستقبل إدارته على الكونجرس الأمريكي بل على تنازل يقّدمه هو لبوتين.
إن اقتراح كيري بشأن سحب الأسلحة الكيماوية، وما لاقاه من تأكيد روسي عبر لافروف والموافقة المبدئية لوليد المعلم، من شأنه أن يشكّل مخرجاً لأوباما من مأزقه التاريخي، وهو مخرج يعبر منه أوباما عن طريق طوق نجاة يرميه إليه بوتين، وهو أمر سينقذه على المدى القريب، ولكن على المدى الأبعد سيعني أنّه عملياً سلّم لبوتين إدارة الملف السوري مرّة أخرى، وأظهر ضعفاً في التعامل مع خصوم الولايات المتحدة.
وانطلاقاً من ذلك فإننا نرى أنّ الولايات المتحدة إذا لم تتراجع لعرض وضع أسلحة الدمار الكيماوي تحت تصرف دولي فإن النظام السوري سيكون مستعدّاً لتسليم هذه الأسلحة كما كان مستعدّاً للانسحاب من لبنان تحت ضغط المجتمع الدولي. هذا الأمر سيؤدّي إلى :
● إرسال رسائل واضحة بالنسبة لروسيا وايران تؤكدّ على انتصارهما، وستعني تأكيداً لهما ولغيرهما بأن الولايات المتحدة هي دولة ضعيفة منسحبة من المنطقة، وتلقّت صفعة تلو الاخرى دون أن تتمكن من الرد عليها.
● ومن المؤكد أن بشار الأسد هذه المرّة سينتقل إلى سلوك هجومي أكثر عنفاً وبشكل أشد من السابق، وعملياً سيشكل هذا انتصاراً آخر لإيران ولروسيا وللنظام السوري.
● وبالمقابل نتوقع في هذه الحالة أن تقوم الولايات المتحدة بمحاولة لإنقاذ ماء الوجه، عن طريق تعزيز تدعيمها الشديد بشكل واضح ومباشر لقوات الجيش الحر والسعي لتعزيز البنى المدنية للمعارضة.
ومن جهة أخرى، فإن المعارضة السورية لن تكون قادرة من خلال الائتلاف وفي هذه الظروف على الدخول والانتقال إلى “جنيف-2” نظراً لأنّ خطابها السياسي قد تعالى بشكل كبير في إدانة بشار الأسد، وسيكون لذلك انعكاسات سلبية شديدة عليها اذا ما انخرطت في عملية جنيف.
ومن المتوقّع أيضاً أن تصعّد كل من بريطانيا وبقية دول أوروبا والولايات المتحدة من إدانتها لاستخدام السلاح الكيماوي، وتبدّل خطابها الإعلامي بما يتعلّق بالأزمة السورية، وستحاول إحالة الأسد إلى مجلس الأمن انطلاقاً من تحقيق لجنة المفتشين.
مجمل هذه التطورات توحي بأنّه في حال استمرار الإدارة الأمريكية بالقبول بوضع الأسلحة الكيماوية تحت تصرّف المجتمع الدولي فإنّ ذلك سيعني تدويل الملف السوري في حالة نزاع متطاول، واشتداد المساهمة الايرانية وحزب الله في الأزمة السورية، وانخراط دول اقليمية أكثر فأكثر في الصراع القائم في سوريا. بالإضافة لذلك، يجب أن نتوقع بأن إخراج أسلحة الدمار الشامل من التداول سوف يسهل عمليات ضرب لاحقة لبشار الأسد من قبل الحلفاء الغربيين فيما لو وجدوا مبرّراً للقيام بذلك، كما فعلوا بالعراق سابقاً عبر تجريد تدريجي لصدّام حسين من مقوّمات قوته وعناصرها.
يجب أن ندرك أنّ النظام السوري سوف يعمد إلى تسريب كميات من الأسلحة الكيماوية التي لن يضعها تحت تصرّف المجتمع الدولي، بهدف توريط منظمات إرهابية يديرها النظام، ساعياً من وراء ذلك إلى تبرير خروجه من قضية الإدانة بالمحاكم الدولية بجريمة استخدام السلاح الكيماوي.
نظرياً، قد يبدو أن الاقتراح الروسي بتفكيك الأسلحة الكيماوية في سوريا أشبه بحل مثالي بالنسبة للمجتمع الدولي، تحقّق بفضل دبلوماسية قسرية مارستها الولايات المتحدة. فقد ادّعى أوباما أن الغرض من تهديده بالهجوم العسكري لم يكن معاقبة بشار الأسد لاستخدامه الأسلحة الكيميائية بل وسيلة لترسيخ مبدأ أن العالم لن يتسامح مع استخدام الأسلحة الكيميائية. وفي هذا السياق قد يبدو أن مجرّد وضع جزء من الترسانة الكيماوية للنظام السوري تحت إشراف دولي، ومن ثمّ تفكيكها، يعطي إدارة أوباما القدرة على الادعاء بأنها حقّقت نجاحا كبيراً في مجال السياسة الخارجية. لكنّنا نعتقد أن من المبكّر جدّاً الحكم على ذلك والتنبؤ بنجاح هذه المهمة، فواقع الأمر أن احتمالات تحقيق حتى تسليم فعلي للمقدّرات الكيماوية للنظام السوري تبدو محدودة.
وتدّعي بعض الأوساط في واشنطن أن جميع الأطراف ستخرج رابحة مع الاقتراح الروسي ، فما من أحد يخسر أكثر مما يستطيع تحمله. إذ يدّعي هؤلاء أنه في حال التنفيذ المثالي:
-
تستطيع الولايات المتحدة أن تدّعي أنّها تمكّنت من تحقيق أهدافها دون اللجوء إلى القوة، بل قد يبدو أنّ أوباما تمكّن من تجنّب هزيمة محرجة في الكونجرس، وسينسى النّاس في واشنطن تردّده وتعرّجات موقفه وضعفه.
-
وستتجنّب كل من بريطانيا وفرنسا حرج أفول نجمهما وقصور إمكاناتهما في السياسة الدولية.
-
أمّا روسيا بوتين فتستطيع أن تدّعي بفخر أنّها كسبت ما كانت تتوق لتحقيقه، من حيث حماية رأس النظام السوري، واكتسبت مصداقية الموقف، ودفاعها المستميت عن حليف يائس مترنّح، كما أنّها تكون قد تمكّنت في محاولة كادت أن تكون يائسة من تجنّب المزيد من استعراض جبروت القوة الأمريكية المتفرّدة ولدورها في العالم، ممّا يعتبر نجاحا دبلوماسيا نادراً وملفتاً للنظر تمكّن من إحباط العمل العسكري الأمريكي من جانب واحد، وتثبت روسيا بذلك للعالم ولخصومها قبل حلفائها في المنطقة والعالم أنها لا تزال قوة عالمية مهمّة .
أما على الصعيد الإقليمي فإنّ الصورة مقلوبة تماماً. فهي تبدو أقرب إلى تكريس حالة الاستعصاء والفراغ الاستراتيجي العميقة والخطرة، ليس فقط فيما يخص الأزمة السورية بل تجاه المنطقة ككل.
فبالنسبة للحلفاء التقليديين للولايات المتحدة (بما في ذلك إسرائيل)، فلقد تمكّن النظام السوري المجرم (الذي قال بان كي مون مؤخراً أن رئيسه قد ارتكب جرائم ضد الإنسانية) بدعم حليفه الرّوسي من إثبات قدرته على تحييد الموقف الأمريكي و التلاعب بشكل كبير بحالة الفراغ القائمة، وفي درء تهديد بهجوم عسكري كاسح. فلقد تمكّن بشار الأسد من تعزيز صورته بقدرته على الاستمرار بشكل مؤقت مع كل التشققات والانهيارات التي حصلت في سلطته والدولة السورية. فلقد تمكّن، وإن لحين، من تجنّب هجوم كان من الممكن لنتائجه أن تفوق ما يمكن احتماله.
ويستطيع بشار الأسد بالتالي الاستمرار في ذبح مواطنيه وهو واثق بأن كل ما يجري الحديث عنه من هذا العالم من قيم تضمن الأمن والسلام الدوليين يمكن شلّه تماماً بلعبة الأمم، ومن خلال فهم عميق لحقيقة أن دور الولايات المتحدة في المنطقة في طور الأفول، وأنها خلال ذلك، تتخلى عن حلفائها في المنطقة وتسلّم مصيرهم لخصومهم. فلا أحد في هذا العالم يهتم حقا لمقتل أكثر من 110,000 شخص بالوسائل “التقليدية”، بل حتّى استخدام الأسلحة الكيميائية لا يثير استجابة دولية مناسبة، ويمكن للأسد بالتالي أن يلعب اللعبة الدولية الشيطانية، بل والظهور كلاعب دولي مسؤول و”محترم” في سياق الدبلوماسية الدولية الهادئة لوليد المعلم.
وفي حين ضغطت إيران على حليفها بشار الأسد لقبول الاقتراح الروسي فهي تعتقد أنه سيخرج من محنة التهديد بالضربة الأمريكية بموقف أقوى سواءً على الصعيد الداخلي أو الخارجي. فمن خلال دعم نظام الأسد ضد احتمالات الضربة الأمريكية، ساعدت إيران أيضاً في تجنب حدوث سابقة تتحرك بموجبها الولايات المتحدة و المجتمع الدولي عسكرياً للتعامل مع تهديد أسلحة الدمار الشامل. وهذا هو الخوف الإيراني الكبير في نهاية المطاف.
على المدى القصير جداً، يمكن القول إن إسرائيل ستتنفس الصعداء حتى تجاه احتمال نظري باستخدام السلاح الكيماوي في حال تدهور وضع بشار الأسد نحو الهاوية، وهي ستستفيد مباشرة بالطبع من تخفيض الترسانة الكيماوية للنظام السوري. لكن سيكون عليها أن تتأكد من أنّ جزءاً من هذه الترسانة لن يذهب إلى منظمات إرهابية معادية، وليس بالضرورة إلى حزب الله. فالخطر لا يكمن في تسريب جزء من هذه الأسلحة إلى هذه المنظمات فحسب، بل في تهريب جزء من تكنولوجيا تصنيعها.
لكنّ الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في المنطقة بما فيها إسرائيل، ترى في تعامل أوباما مع الوضع السوري بمثابة مؤشر على سلوكه في المستقبل بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهو الأكثر خطورة استراتيجياً.
فلقد رفع هذا السلوك من الإحساس العالي بالخطر لدى هذه القوى لعدّة أسباب:
-
سلوك الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط يوحي بقوة، ليس فقط بأنها تعيد عملياً انتشار قواتها وتواجد مصالحها في المنطقة فحسب، بل توحي بأنها، في إطار سعيها للتمسك بالحلول السياسية والدبلوماسية وفي ضوء إحجامها عن استخدام قوتها العسكرية وعن الاعتماد على حلفائها في المنطقة بل خضوعها لابتزاز خصومها على أرض الواقع، فإنها تصبح في نظرهم بشكل أو بآخر رهينة حاجتها لتجنب مواجهة خصومها، بما يبدو أنها تعطيهم أهمية قصوى تفوق أحيانا حرصها على مصالح حلفائها في المنطقة، بل هي لا تتوانى عن التخلي عنهم في سياق أولويات تفرضها حالة نقص الإرادة السياسية التي تعاني منها الإدارة الأمريكية الراهنة في نظرهم.
-
أصبح واضحاً في نظرهم أن العداء أو الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة أجدى بكثير من صداقتها.
وترى العديد من القوى الرئيسية الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة، أن الولايات المتحدة قد لعبت دوراً هاماً وجديداً فيما بعد سقوط جدار برلين، في إدارتها لمنطقة الشرق الأوسط. وعملت الإدارة الأمريكية الراهنة بشكل خاص على ترتيب انسحابها من العراق و على ترجيح موازين القوى في المنطقة لصالح البحث عن منظومة جديدة للاستقرار والأمن تسمح للولايات المتحدة بإعادة الانتشار والانفكاك عن الانخراط الفعلي المباشر في إدارتها. بل مضت الإدارة الراهنة أبعد من خلال مساهمتها في تفجير عوامل التجديد والتغيير في المنطقة، في إطار ما تراه الإدارة الراهنة أنه محاولة لتكريس استقرار ديناميكي فيها، وهو استقرار يقوم على توازن استراتيجي بين القوى الإقليمية بعيداً عن عوامل الاستقرار الراهنة التي تولّد بحسب رأي الإدارة الكثير من عوامل الركود والتفسخ والإرهاب.
إن سلوك الإدارة الراهنة وترتيبها لعلاقاتها مع خصومها الدوليين، سواءً ايران أو روسيا، يوحي بخطر كبير لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين. ذلك أن التمسك المفرط بالدبلوماسية طويلة الأمد والمراهنة غير المضمونة على حسن نوايا الخصوم تثير مخاوف كبيرة لدى هؤلاء الحلفاء وتخلق شعوراً بالفراغ يضطرهم إما للبحث عن بدائل أو ببساطة لمجابهة السياسة الأمريكية والعمل على إفشالها.
بل يشعر هؤلاء الحلفاء، أن الولايات المتحدة لا تكتفي بالتخلي عنهم وإدارة الظهر للمنطقة تحت ذريعة أولوية القضية الصينية، فهي لا تكتفي بإعادة الانتشار في المنطقة، بل تريد تركها فريسة لخصومهم التاريخيين، روسيا وإيران والإسلام السياسي المتمثل بالإخوان المسلمين.
إنهم يرون أن قصور الولايات المتحدة في إظهار تمسكها بمصالح حلفائها واقتصارها الحصري على استخدام الأدوات السياسية والدبلوماسية يؤدي عملياً لخضوعها لابتزاز خصوم يتميزون بشكيمة سياسية وإرادة وطموح عقائدي عالٍ.
وفي رأينا أن هذا الوضع يشكل عامل اختلال رئيسي في توازن القوى الإقليمي الذي يشكل الضامن الرئيسي للاستقرار القلق في المنطقة. ذلك أن هذا التوازن وأدواته يهددان بانفجارات لا يمكن ضبطها في منطقة تفتقد بشدة لمنظومة ذاتية للأمن والسلام، فغياب الدور الضابط للقوى الدولية المهيمنة سيكون له أثر انفجاري.
وبالعودة للوضع السوري، فإننا نقول إنه وسط كل هذا الغموض الذي يلف تفاصيل الاقتراح الروسي و فرص تنفيذه فإننا على يقين بأن النظام السوري سيفعل كل ما هو ممكن للتحايل في تأخير أو منع نقل ترسانته الكيمياوية لتصبح تحت الرقابة الدولية، ناهيك عن فكرة تفكيكها. وسوف يلاقي النظام تأييداً كبيراً في ذلك من روسيا وإيران.
وهكذا نجد أنفسنا نعود للمربع الأول، إذ سيستمر النظام السوري في الاعتراض على كل تفصيل تقترحه المنظمة الدولية، بدءاً من جنسية المفتشين إلى مواعيد زيارتهم إلى أماكن إقامتهم إلى المواقع المسموحة لهم إلى نوعية مرافقتهم إلى مضمون وصلاحية تقاريرهم ….. إلخ. وسيتم ذلك بدعم روسي قوي، وسيسعى النظام السوري بالطبع إلى كسب الوقت وتقويض أي إمكانية للضربة الأمريكيةـ بل ترى الدبلوماسية السورية والروسية الآن أن الإدارة الأمريكية صارت بحاجة لتعاونهم عن طيب خاطر.
ويرى البعض أن أوباما قد أصبح شريكا لهم ومصلحته في نجاحهم لا في فشلهم. وسيسعى النظام السوري في رأينا للحفاظ على أكبر قدر من القدرة الكيمياوية، والانصياع على مضض بأقل قدر من التنازلات والسعي للإفلات من أكبر قدر منها.
ونظراً لضخامة الترسانة الكيمياوية السورية فسيستغرق تفكيك هذه المنظومة سنوات في أحسن الأحوال، ناهيك عن أثر الحرب الأهلية على سياق عملية التفكيك، وإمكانية تسرب المخزون لجماعات غير معروفة … إلخ. بل نستطيع التأكيد أنه من وجهة النظر اللوجستية البحتة فإنه من غير الواضح كيف يمكن أن تجرى عمليات الرصد والتفكيك في مثل هذه الظروف.
يسمح لنا هذا الوضع أن نؤكد بأن النظام السوري سيراهن بقوة على أن يحصل على درء نهائي لاحتمالات الضربة، ناهيك عن درء احتمالات العقاب، في حين يحصل على تورط أمريكي من موقع الحاجة الأمريكية له، وإظهار التورط الأمريكي أنه حصل عن طيب خاطر، والدخول مع النظام في مفاوضات الخطوة-خطوة التي لا تنتهي. ليخرج نظام الأسد بربح كامل من المعركة يروض فيها “الغرب” من دون ان يدفع مقابل ذلك شيئاً من الناحية العملية.
وتشكّل طريقة تعامل الرئيس أوباما مع الأزمة مصدر قلق كبير أولاً بالنسبة للأميركيين، ومن ثم بالطبع بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
فبعد أن أعلن الرئيس الأمريكي بشكلٍ مفاجئ حتى بالنسبة لمستشاريه، قبل عام أن استخدام الأسلحة الكيمياوية من قبل النظام السوري يعتبر خطاً أحمر، استمرّ الرئيس في مفاجأتهم لفترة طويلة من خلال تجاهل المعلومات الاستخبارية الدامغة التي طالما أكدت استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام في العديد من الحالات. ثم عاد ليفاجئهم عندما تحرّك متأخراً جدّاً، ثم ليفاجئهم بتردّده، وإحالة الموضوع إلى الكونغرس، ثم ليفاجئهم بعد ذلك بإحالته الملف مرة أخرى إلى روسيا عملياً.
تجد القوى الحليفة للولايات المتحدة في هذا السلوك مصدر قلق وخطر كبيرين. بل تجده فشلاً ذريعاً واعتلالاً في عزيمة الرئيس بدلاً من المبادرة وممارسة القيادة من الأمام.
كان قرار الرئيس في اللحظة الأخيرة باعتماد الاقتراح الروسي، في نفس اليوم الذي كان ينوي فيه تقديم قضيته بالدفاع عن الضربة العسكرية في خطاب وطني، دليلاً قاطعاً لهم بأنّ كل ما قام به الرئيس كان مجرّد ماكياج، بل قناعاً يخفي تردّده وإحجامه النفسي والاستراتيجي.
إنه فشل جوهري في عملية صنع القرار في الولايات المتحدة، فتردّد أوباما سيجعل العالم، خاصة بالنسبة لدول الشرق الأوسط، أقلّ أمناً.
ولا شكّ أن خصوم الولايات المتحدة في العالم مثل روسيا و الصين و خصومها في سوريا وإيران ، سيخرجون بالتأكيد باستنتاج واحد مهم من مسار الأحداث هذا، بغض النظر عن النتيجة، لا يقتصر على أن الشعب الأمريكي رافض لأي تشابكات خارجية، بل وأنّ الرئيس أوباما شخصياً متردّد ومنكفئ وحذر من تلك التشابكات و في استخدام القوة ، حتى عندما أعلن الرئيس خطّاً أحمراً واضحاً.
بالنسبة لأولئك المعنيين في المقام الأول بتزايد التهديد النووي الإيراني، وخاصة إسرائيل والمملكة العربية السعودية، يشكّل تعامل أوباما مع المسألة مصدر قلق عميق سيعزز بشكل كبير من الشعور بالتخلي الأمريكي عنهم، وربما يزيد شعورهم بالحاجة للفعل المنفرد ولبناء تحالفات جديدة. العالم الذي يبدو فيه أن الولايات المتحدة متردّدة هو عالم أقل أمناً بكثير.
هناك الكثير من الأسئلة الجوهرية، ومنها: هل ستشعر الولايات المتحدة، وليس الإدارة بالضرورة، بخطورة الوضع الراهن؟ وهل تفهم الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بأنهم يجب أن يكونوا قديرين في لعبة الدبلوماسية القسرية، وأنّ من يلعبها يجب أن يكون مصمماً على الفوز؟
وهل ستتخذ كلٌّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على الأقل موقفاً حازما في مجلس الأمن بحيث يصرّون فيه على وجوب أن يكون قرار اعتماد الاقتراح الروسي يتضمن التهديد باستخدام القوة وعقوبات دولية ملموسة أخرى، جنباً إلى جنب مع جدول زمني واضح ومعايير واضحة لامتثال النظام السوري لمنعه من دفن الاقتراح بالتفصيل، والتشويش والعرقلة، بالاستفادة من التواطؤ الروسي؟ ذلك أنّ الضمانة الوحيدة لتصفية الترسانة الكيمياوية للنظام هو الحفاظ على تهديد واقعي حقيقي بضربة أمريكية.
ولتكن هذه ساعة الحقيقة بالنسبة لقوى الانتفاضة السورية:
-
حقيقة الكفّ عن توسّل التدخل.
-
حقيقة الحاجة للقطيعة مع التطرّف والإرهاب الإسلاموي والطائفي قدر القطيعة مع إرهاب النظام.
-
حقيقة الحاجة للخروج من مآزق التبعية للأجندات الإقليمية بقدر القطيعة مع الحلفاء الإقليميين للنظام.
-
حقيقة الحاجة لوحدة قوى الانتفاضة بما يسمح بطرح برنامج وطني جامع يطابق واقع البلاد الراهن وينتج مخارج للحلّ السياسي الذي يتيح لكل مكونات المجتمع السوري أن تخرج مشاركة رابحة بقدر ما هي مطمئنة لمصيرها ضامنة لحريتها في هويتها ومعتقداتها بقدراتها الذاتية.
-
حقيقة ضرورة العودة إلى الدّاخل أولاً، والكفّ عن ادّعاء التفوّق عليه في الخبرة وقيادته من الخارج.
فلئن كان ثمّة فشل أكيد لقوى الداخل لهذه الانتفاضة الكبرى فهو فشلها في منع تحوّلها إلى حرب طائفية. ولئن كان ثمة فشل ذريع مدقع لمعارضة الخارج (بدءاً بأنفسنا) فهو فشلنا الذريع في الدفاع عن القضية السورية في الخارج، فدعاية النظام وأجهزة الاعلام الروسية تدير معركة رابحة مريحة في ساحة واسعة تمتد من واشنطن إلى بكّين مروراً بلندن، ونحن لم ننجح في تحصين انتفاضتنا من بؤس الشعبوية، وفقدان العقل السياسي، وهمجية التطرف الديني الطائفي. لقد فشلت الأجسام السياسية للثورة، بما فيها الائتلاف والمجلس الوطني، في تحويل هذه الانتفاضة إلى ثورة وطنية جامعة لكل السوريين، فبدأت تتحوّل تدريجياً إلى حربٍ طائفيةٍ مقيتةٍ بكل المقاييس، ولن يعيد الأمور إلى نصابها إلّا السوريّين أنفسهم.
شـاركـنـا رأيـك: