المُسيء… ليس الفيلم وحده


نشأةُ الفيلم غامضة، كمنتجه، وما يزال الجدل دائراً حول وجود الفيلم أصلاً أم مجرّد الدقائق الثلاثة عشر الموجودة على يوتيوب.  ويبدو أنّ منتجه حاول نشره في عدّة أماكن دون أن تجد بضاعته الفاسدة زبوناً واحداً، ولكن بعد أن تمّت دبلجته للعربية، تلقفته إحدى القنوات المصرية وأذاعت لقطات منه داعية لعدم السكوت عنها، لتنتشر بعد ذلك كالنّار في الهشيم. اقتحام سفارات أمريكية هنا وهناك ومقتل السفير الأمريكي في ليبيا، وإحراق لمطاعم امريكية في لبنان.

(اضغط هنا لمشاهدة مقطع من البرنامج على قناة الناس الذي تم نشر دقائق من فيلم “براءة الإسلام” فيه)

تتبادر للذهن أسئلة أمام هذه المشاهد وتطرح نفسها بإلحاح، من المستفيد؟ من قام بنشره ولمصلحة من؟ من خرج منتصراً في نهاية المعركة؟ وهل يمكن تلخيص المعركة بأنّها بين المسلمين وأعداء الإسلام بهذه البساطة، أم أنّها متشابكة وفيها من الأطراف أكثر ممّا نتوقّع؟ من خارج مجتمعاتنا ومن داخلها؟

حساسية الشعوب الشرقية تجاه مقدّساتها وترٌ لا يعزف عليه تجّار الدين من داخلها ليزيدوا ربح تجارتهم فحسب، وأعداؤها من خارجها ليثبتوا لشعوبهم غوغائية الشعوب الإسلامية وضرورة لجمها والحذر منها فقط، ولكن تعزف عليه حكوماتنا ببراعة أكثر من ذلك بكثير، فهي من طرف تسعى لإثبات نظريتها أن الشعوب التي تحكمها هي شعوب همجية، ويجب أن تبقى حكومات الغرب ممتنّة للأنظمة لأنّها أبقت تلك الشعوب تحت السيطرة، ومن طرف آخر تسعى لإلهاء شعوبها بمعارك لن يخرج منها منتصراً أبداً، لا لأنّه لا يملك القوّة، ولكن لأنّها معركة مع أعداء وهميّين خُلقوا ليستنزفوا طاقاته وامكانيّاته.

التقرير التالي لقناة الجزيرة من صنعاء بتاريخ 13 أيلول (سبتمير) 2012 حيث يفيد شهود عيان بأنّ التحصينات الأمنية كانت أقلّ من المعتاد، بمشاهدة سريعة له يعود بذاكرتنا إلى دمشق 4 شباط (فبراير) 2006

(اضغط هنا لمشاهدة تقرير الجزيرة)

ففي أواخر 2005 وبداية 2006 حين تمّ نشر رسومات مسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام في عدّة صحف أوربية، بدأت موجات غضب في الدول العربية والإسلامية، وصلت لإحراق سفارتي النرويج والدنمارك في دمشق، وقنصلية الدنمارك في بيروت، وحوادث مشابهة في عدّة مدن أخرى. والملفت أنّ التحصينات الأمنية في دمشق يومها أمام السفارات كانت لا تُذكر، ونقل بعض شهود العيان حينها أنّ الحجارة تمّ نقلها للمتظاهرين تحت أعين الأمن ليقوموا برميها على السفارات ثمّ ليُدفع بعض الشباب لاقتحامها.

الفيلم حاول الإساءة للإسلام والمسلمين، ولكن من أساء للإسلام حقّا هم أولئك ممّن خرج فاقتحم ودمّر وأحرق وقتل، ليثبت الصورة المقيتة التي يحاول الفيلم الضعيف نشرها، ولكن هذه المرّة بمشاهد مؤثّرة، بدماء حقيقية، وبوقائع لا يمكن تكذيبها، وبأحداث لا تتطلّب من مُشاهدها أن يعود لكتب التّاريخ ليتأكّد من كذبها أو صدقها. أيّهما أكثر إساءة للإسلام.. ردود أفعال همجيّة وعنيفة تصدر من أناسٍ بيننا يدّعون تمثيلهم للإسلام ولثقافته، أم فيلم فقير تافه يُنتج في كاليفورنيا من منتج مشبوه متخفّي تاريخه غامض؟

ما دورنا في خضمّ كلّ هذا؟ وهل سيترك الشباب هذه الأحداث تمرُّ كما كانت تمرُّ قبل الرّبيع العربي؟ بنظرة سريعة على الشبكات الاجتماعية ونقاشات الشباب تدرك أنّ الجواب بوضوح “لا”، وحتّى السوريّون رغم انشغالهم بمصابهم وعتبهم على اخوانهم بانشغالهم عنهم وغضبهم لفيلم في وقت تُسفك فيه دماؤهم وتنتهك مقدّساتهم ليل نهار، لكنّهم كذلك ناقشوا الموضوع وأخذ نصيباً كبيراً من نقاشاتهم في الأيام القليلة الماضية. الكثير من النقاشات كانت حول العنف والطائفية وخروج الاحتجاجات عن السيطرة لتصبح إساءة حقيقيّة للإسلام.

مصدر الصورة:CNN عربية

العقول كالسّوق، لتُبعد عنه البضائع الفاسدة يجب أن تملأه ببضائع ذات قيمة. عند خلوّ السّوق من أفكار اللاعنف يصبح العنف الحلّ الوحيد أمام النّاس، وعندما لا يجدون منافذ يفرّغون منها طاقاتهم بما يعود بمردودٍ إيجابيّ عليهم وعلى مجتمعاتهم سيتّجهون لطرق أخرى. ردّة الفعل المتحضّرة لا تنشأ بين يوم  وليلة، وهي حصيلة جهد متراكم عبر سنين وعقود. ما يمكن أن يبدأ اليوم بفكرة قد يغدو بعد سنين منهجاً وعادةً اجتماعية. التطرّف موجود في كلّ المجتمعات، ومن غير المقبول أن نستسلم لليأس.

من الأفكار التي تمّ طرحها على تويتر من قبل بعض الأصدقاء كرد فعل على الحركات المشابهة للفيلم المسيء بعيداً عن العنف: تنظيم اعتصامات صامتة أو إقامة الصّلوات أمام السفارات المعنيّة كما اقترحت آلاء والوطني السوري،  واقترح لونا وعمر أن نقوم بتحضير مقاطع فيديو قصيرة تبيّن مواقف من سيرة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، ورأى أويس أنّ الفكرة ستكون أفضل إذا استطعنا تنظيم مسابقة لأفضل فيلم قصير أو تصميم غرافيك يوضّح حقيقة الإسلام، ونشر حياة الرّسول سواءً بالكتب المترجمة كما اقترحت سيرين أو على شبكات التواصل الاجتماعي كما اقترحت زينة. أو دعوة لحوار علنيّ كما قال كنان مع منتجي الفيلم ليتم دحض وجهة نظرهم بالحجّة، فيما اقترح عبد الرحمن المضيّ في الجانب القانوني لمقاضاة المسيئين، أوتخصيص يوم لإحياء سنن الرّسول الاجتماعية كإماطة الأذى وإشاعة السّلام وتفقّد المحتاجين فيكون يوماً عالمياً لنصرة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام كما اقترحت مايا.

ختاماً، أودّ مشاركتكم هذه التّجربة الصّغيرة، في عام 2006، وبُعيد نشر رسومات الكاريكتير المسيئة للرّسول عليه الصّلاة والسّلام، قامت مجموعة من الطلّاب في جامعة القلمون في سوريّا بتوزيع استبيان على عيّنة من 600 طالب لمعرفة رأيهم وراء أسباب نشر الرّسوم واقتراحاتهم للتعامل مع هذه الحادثة لإعداد دراسة وتقرير حول ذلك. بعدها قاموا بتنظيم ندوة حوار مفتوح لمناقشة التقرير ونتائجه حضرها ما يقارب 300 طالب وطالبة وأعضاء من الطاقم الإداري والأكاديمي، تمّ خلالها طرح عدّة وجهات نظر وتقييم لردود أفعال الشّارع السّوري تجاه الأزمة، وخرجت الدراسة وندوة الحوار بتوصيات باسم شريحة الطّلاب الشابّة. كانت التّوصيات على عدّة مستويات، للأفراد، المؤسسات الرسمية، والجهات الدولية، وتم ارسال التقرير باللغتين العربية والانكليزية للصحف الاوربية التي نشرت الرّسوم، سفارات الدول المعنية، مؤسسات سورية رسمية كالوزارات المعنيّة بالاقتراحات، ومنظمات دولية كالأمم المتّحدة والمفوضية الأوربية. كم سيكون رائعاً لو تمّ استنتساخ التجربة وتطويرها في جامعات أخرى… (لديّ نسخة الكترونية من التقرير والاقتراحات لمن أراد).

الابداع موجود، والطاقات موجودة، والمعركة دائرة، نحتاج جميعاً لأن نركّز على أهدافنا ونذكّر بعضنا البعض بها، ونستمرّ في معركة بناء الوعي لدينا كأفراد ولدى مجتمعنا، عملية ستطول، ولكنّها حتماً ستُثمر.

بعض الاقتراحات من تويتر

Advertisement

About Ibrahim al-Assil إبـراهـيـم الأصـيـل

Ibrahim al-Assil is a Syrian political analyst and civil society activist who serves as a resident fellow at the Middle East Institute. He is also a director at the Orient Research Center-DC Office. His work focuses on the Syrian conflict with an emphasis on different aspects of security, civil society, political Islam, and political economy. Al-Assil is the president and a co-founder of the Syrian Nonviolence Movement, an NGO formed in 2011 to promote peaceful struggle and civil resistance as a way to achieve social, cultural, and political change in Syrian government and View all posts by Ibrahim al-Assil إبـراهـيـم الأصـيـل

One response to “المُسيء… ليس الفيلم وحده

شـاركـنـا رأيـك:

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

%d bloggers like this: