إنّك امرؤٌ فيك منحبكجية!


يُروى أنّ خلافاً جرى بين صحابيين كريمين هما أبو ذرّ الغفاري وبلال بن رباح، ووقعت مشادّة كلامية وعيّر أبو ذرّ بلالا بأمّه أو قال له “يا ابن السّوداء” فاشتكى بلال للرّسول عليه الصّلاة والسّلام. ومع اختلاف الرّوايات في تفاصيل القصّة فقد أجمعت أنّ الرّسول الكريم قال لأبي ذر موصّفا المشكلة وواضعا يده على مكان الخلل “إنّك امرؤٌ فيك جاهليّة” [البخاري]. في هذه العبارة دلالة عظيمة توضّح البعد الحضاري الذي عمل عليه الصّلاة والسّلام لبنائه في اصحابة ومجتمعه، وتُبيّن أنّ الجاهليّة التي حاربها الاسلام ليست مرحلة زمنية تنتهي بتاريخ معيّن، وليست لباسا يخلعه المرء بلحظات، وليست انتماءً يتخلّى عنه المرء بكلماتٍ يلفظها أو ببضع مواقف يتبنّاها. الثّورة على الجاهليّة كانت ثورة أفكار وأخلاق يحملها المرء داخله فتصبغ حياته بلونها جملةً وتفصيلا، وما أشبه ثورتنا اليوم بها.

قامت ثورتنا داعية لتغيير ايجابي لم ينحصر بكونه سياسيّا، فكثير من الدّعوات والجهود ركّزت على معانٍ حضاريّة كدور المرأة والمواطنة والمسؤولية الفرديّة، حتّى أنّ جلّ انتقاد الثوّار لكثير من المؤيّدين انصبّ على طبيعة علاقتهم بشخص رئيس الجمهوريّة كعلاقة مبنيّة على الولاء المطلق والذي أشبه ما يكون بالعبوديّة، وأُطلق عليهم لقب “المنحبكجيّة” لأنّهم أُغرموا بمن يُفترض به أن يكون موظّفا لديهم، فاذا تكلّم فهو من أوتي مجامع الكَلِم، واذا تبسّم فهو جابر عثرات الكرام، وحتّى ان اخطأ فذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو ولا تحيط بها مداركنا، لا يُطالب بانجاز ولا يُحاسب على تقصير، كيف وهو سيّد الوطن!!. ولكن وكما تسرّب شيءٌ من الجاهليّة لنفس أبي ذرّ رضي الله عنه أعادته إليها عند ذلك المحكّ، فمن المتوقّع والطّبيعي أن يتسرّب شيءٌ من عقليّة المنحبكجيّة للثوّار فيخلقوا رموزا جديدة تُعطى من القدسيّة ما أعطاه المنحبكجيّة لسيّدهم، وتتعدّى طلباتهم لنا باحترامها لتصل لحدّ تقديسها أو عبادتها، فكلّ من انتقدها وان كان نقده بنّاءً فهو أحمق أو مستهتر بدماء الشّهداء أو جبانٌ متردّد أو حتّى خائنٌ عميل.

الثّورة ليست ألقابا تُمنح ولا شهاداتٍ تُعطى، الثّورة مجموعة قيم أخلاقيّة ومبادئ وطنيّة، من حاد عنها حاد عن الثّورة كائنا من كان، اذا كنّا قد ثُرنا على تقديس الفرد وعبادة الرّمز والتّعصب لمن حولنا والقبليّة بالحميّة لمن شابهنا وان أخطأ فلن نرضى أن نبدل رمزا برمز، ولا مستبدّا بمستبد، سواء أكان هذا المستبد متمثّلا بشخصٍ أو فكرةٍ أو مجموعةٍ أو رأيٍ أو وجهة نظرٍ أو توجّهٍ يرفض محاورك أن تخالفه أو أن تنتقده، وربّما خوّنك وسفّهك بحجّة الدفاع عن دماء الشهداء وكأنّ دماء الشهداء لم تسل إلا لتؤيد فكرته أو أنّ الشهداء يعلنون تضامنهم معه من عليائهم.

هذه ثورة تغيير، ولن نسمح لأحد بأن يعيدنا لعهد الذلّ والعبوديّة والتّعصب لشخص مهما كان مضحيّا أو وطنيّا، بل ان تقديسنا له هو خيانتنا الصّريحة لتضحيّته، فهو لم يضحِّ لنصّفق له ونرتّل بحمده، وإنمّا بذل ما بذل فداءً لمبدأ وهدف، فتقديس المبدأ هو أجدى وأبدى. نقدّس التضحيّة التي قدّمها ولا نقدّسه كشخص فهو بشر يخطئ ويصيب، وتقديسنا له يعني أنّنا ندفعه دفعا في طريق الخطأ وفي التّاريخ ما يثبت ذلك بآلاف الأمثلة.

ثُر وانتقد من شئت ولا تصمت، لا تسمح لأحد بأن يسلبك حريّتك التي اكتسبتها على حساب أمنك وسلامتك أنت وأهلك وأحبابك ودفعت ثمنها غاليا، لا تسمح لأحد بأن يسلبك حريّتك التي أهداها لك آلاف الشهداء بدمائهم وأرواحهم، لا تسمح لأحد بأن يسلبك حريّتك باسم الثّورة اليوم وقد سُلبتها قديما باسم المقاومة والممانعة، لا تسمح لأحد بأن يسلبك حريّتك تحت أي مسمّى كان فكلّ المسمّيات كاذبة وكلّ الحجج واهية ان سعت لتقييدك، رأيك وصوتك هو أغلى ما تملك اليوم، وهو ما تنتظره منك بلدك وثورتك، وأن أخالفك بحريّة وان كنتَ على صواب خيرٌ ألف مرّة من أن أوافقك بنفاق وعن غير اقتناع، ثورتنا ثورة حريّة وممارستك للحريّة في وجه كلّ من يحاول اغتصابها هو أكبر دعم تقدّمه للثّورة، كن أنت الثّورة وقل لكلّ من يحاول اسكاتك… انّك امرؤٌ فيك منحبكجيّة!

هذه ثورة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لا يمكن ان تنتصر ان لم تكن بذاتها وتوجهها وافعالها مثالا لما تدعو إليه ونموذجا حيّا لما تنادي به من الحريّة الحقيقية والكرامة. في هذه الثّورة من يشبه أهل الجاهليّة… كانوا يصنعون لأنفسهم أصناماً من تمر، يقدّسونها ويعبدونها، فاذا جاعوا أكلوها… وصنعوا آلهةً غيرها… ألا ساء ما كانوا يفعلون!

About Ibrahim al-Assil إبـراهـيـم الأصـيـل

Ibrahim al-Assil is a Syrian political analyst and civil society activist who serves as a resident fellow at the Middle East Institute. He is also a director at the Orient Research Center-DC Office. His work focuses on the Syrian conflict with an emphasis on different aspects of security, civil society, political Islam, and political economy. Al-Assil is the president and a co-founder of the Syrian Nonviolence Movement, an NGO formed in 2011 to promote peaceful struggle and civil resistance as a way to achieve social, cultural, and political change in Syrian government and View all posts by Ibrahim al-Assil إبـراهـيـم الأصـيـل

31 responses to “إنّك امرؤٌ فيك منحبكجية!

Leave a reply to إبـراهـيـم الأصـيـل Cancel reply