ومضات من ذاكرة معتقل


في البداية لم أشأ عن أكتب عن اعتقالي لصغر قصتي أمام آلاف القصص الأخرى، ولكن نصحني أحد الاصدقاء بأننا يجب أن لا نهمل أي قصة مهما صغرت كي لا يغدو انتهاك حقوقنا وانسانيتنا مجرّد أمر عابر وكي لا نتحوّل لأرقام، وقصتي هنا ليست للثوّار فهم يعلمون ومعظمهم ذاق ما ذقت، ولكنها للصامتين ليعلموا شيئا مما يعانيه أبناء بلدهم وأصدقاؤهم المعتقلون، من واجبنا جميعا الكلام عن تجاربنا عسى أن تصل قصة ما لشخص ما أغلق عينيه أمام الحقيقة فتفتحمها له.

أكتب هنا مشاهد من قصة اعتقالي من أمام جامع الايمان بتاريخ 11-11-2011 لأقضي أربعة أيام في المخابرات الجوية – مطار المزة العسكري، وسأحاول سردها كما ارتسمت على جدران ذاكرتي، كالمشاهد واللقطات التي أذكرها كلّما خلوت إلى نفسي.. علما أن ما واجهته في اعتقالي يعدُّ ربّما من “ألطف” ما قد يمر به معتقل سوري.

 مشهد 1: تنطلق المظاهرة بعد صلاة الجمعة ثم يهاجمها عدة عناصر فتهدأ، يصرخ الشبيحة “وين لي كانوا عم يعووا؟ هاد لي بدوا حرية ياكلاب؟!!” يستفزّ بغبائه ما في النفوس من كرامة فتبدأ صيحات التكبير تهزّ المكان، أتلفّت حولي لأجد كل من في الشارع يكبّر، “يا حمص نحنا معاكي للموت….” تتحوّل تلك المساحة المحدودة لبقعة حريّة…

مشهد 2: فجأة يخترقها مجموعة من الشبيحة، أحاول الركض، يدفعني أحدهم دفعة قوية فأفقد توازني وأسقط لينهال عليّ بالعصا ويمسكني من كنزتي ويجرني، تجتمع نساء حولنا  “تركو، فلتو، ما دخلو، فلتو” تهمس احداهنّ باذني: “شلاح كنزتك وركود” فأجيب مرتبكا: “مالي لابس شي تحتا” (كم تمنيت حينها ان اضحك)،  أستطيع أن أفلت، أركض عدة امتار ثم يعود للامساك بي ” في 3000 ليرة بجيبتي، خدا وتركني” يجمد الشبيح مفكّرا بالعرض، يصل شبيح آخر فيستنتج ان الرقم اصبح مقسما على اثنين فيلغي الفكرة ويعاود الضرب، احاول أن أفلت مرة أخرى، أسقط على الارض لينهال عليّ عددٌ منهم بالعصي، عصا بنية اللون كمضرب البيسبول تشق طريقها نحو رأسي، تصبح الشاشة سوداء، افتحها لاجد عيون الشبيحة تحدّق وشيء لزج يسيل على وجهي، لا تدوم دهشتهم سوى عدة ثواني ليشدّني بعدها احدهم نحو الباص، أجلس في الباص ومن رأسي إلى الأرض خط متصل من الدم، “يا عراعير يا ولاد ال … يا كلاب”، تأتي دفعة جديدة من الشباب “عالارض ولاااااك” تسحبني عدة ايدي وترميني على الارض، لأرى احد اعز اصدقائي يدخل الباص وثيابه ممزقة، يضعه الشبيحة فوقي مباشرة، ومن ثم يباشر احد الشبيحة بالقفز فوقنا والضرب، صيحة من الخلف “مشااااان الله” “ليش بتعرفو لـ الله ولاااا، لك انت ربك بشار الأسد فهمان ولاااا” “عم توزع مناشير يا ابن ال….”  “وهداك الشيخ بدل ما تهدي الناس قاعد ما تحرييييض!!! والله لالعن ابوك” ، “هتلي هالمقص لقصلو شعرو لهل…”

مشهد 3: “قوم نزيل ولااااك” ركلة من أحد العناصر في الباص على الظهر ليدفعك خارج الباص ليتلقفك عنصرين في الأسفل بالعصي، “خزّنونا” في وزارة البيئة في ساحة المحافظة قرابة ربع ساعة ثم “توازعونا” مرة آخرى ونقلنا إلى حيث لم نستطع ان نعرف حينها، يأتي احدهم برتبة أعلى على ما يبدو “ليستلمنا”، “هاد ليش راسو هيك!!”  “سيدي ما تشفق عليهن هدول ما بيتعامل معن غير هيك”  “مالي شفقان بس انا يعني مبسوط بمنظر الدم عندي هيك؟”، واتابع نقاط الدم المتتابعة التي شكلت تحتي دائرة أزعجت حب سيادتو للنضافة….

مشهد 4: وضعونا انا ورجل مصاب برأسه ايضا بمكرو، اقتربت منه وهمست “لا تخاف، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا” وتوقعت كل شيء بالعالم إلا ان تكون ردة فعله “انا ما بخاف غير من لي خلقني.. يلعن ابوهن واحد …” واستنتجت اني عم ارفع معنويات الرجل الخطأ وانتقلت لمرحلة “مشان الله لفّا وصلت فكرتك”، جاء السائق ونقلونا عدة ابنية لنرمى بعدها على رصيف امام مبنى، لعنات وشتائم من هنا وهناك، “سيدي نخدرو؟” “ولك بدنا نخدرو لهلكلب كمان؟!!! هتلي الخيط والابرة لهون لشوف” تلقى علبة الادوات الطبية على الرصيف ليفتح الغطا تلقائيا من هول الصدمة (ما بسخى بالبينسة والشاكوش زتهن نفس الزتة) والطبيب يسب ويلعن ويكفر واحدهم يقترح على الطبيب “سيدي خليه يعتذر منك لانو وسخلك كلاشك بدمّو”… احدهم يلقي ماء دافئ على وجهي لاغسل الدم ويتبين مكان الجرح، “مساح منيح.. فروك منيح…” عطش شديد في حلقي وشفتاي متيبستان، استرق بعض الرشفات من الماء المصبوب بطعمة الدم، ومن ثم يبدأ الطبيب تخييط الجرح لأشعر أن سكين تدخل رأسي وليس ابرة طبيب “وجّعتلي ايدي يخرب بيتك على هالراس متل التيس يا عرعروي” ارفع عيني لأرى باباً على بعد عدة امتار مكتوب عليه وبالخط الكبير “سورية بخير”…

مشهد 5: يمر احد العناصر وانا مرمي على الارض، “شو بتشتغل انت؟!” “بشركة آي تي” كل الوجوه تلتفت مندهشة… “قصدي شركة حواسيب”… تلمع عيناه وكأنه اكتشف مخبأ الظواهري “يعني عندك فيس بوك!!!” فأهز رأسي موافقا على الاقل كي لا ابدّد له نشوته بالاستنتاج الخطير…

مشهد 6: أعادوني بعدها لتسليم اغراضي، وضعوا “الطميشة” او “الطماشة” على عينيّ، “شو معك غراض؟”، “3000 ليرة وموبايل ومفتاح سيارة، بس المفتاح والموبايل مالن يجيبتي هلأ!”، يمد العسكري يده ليخرج النقود “هدول 2600 بس” وألعنه في سرّي لأنو كان معي ثلاثة اوراق من فئة ال 1000 فاذا سقطت احداهن لا يمكن ان تأتي مكانها 500 و 100، شو في بجيبتي اي تي ام!!

“وين الموبايل ومفتاح السيارة؟”

“مابعرف يمكن سلتو وقت اعتقلتوني”

“خدو” وبينما يدفعاني لأدخل في المكرو يرتطم رأسي بحافة الباب لأشعر بالدوار مجددا وبالدم يسيل على عيني ووجهي، أجلس وانا اصيح بصوت تعب “انا عم انزف مرة تانية” أكرّرها عدة مرات

“وينو لي عم ينزف”

“انا”

“رجعو لعند الدكتور يقطبلو”

رفعوا الطمّيشة واستقبلنا الدكتور على نفس الرصيف بالسب والكفر واللعن ويرفض اعادة تخييط الجرح لأن يده تعبت، ويطلب تشكيل دورية وارسالي للمستشفى، فأحمد الله فعلى الأقل سأرتاح حوالي ساعة من الضرب. يأتي احد العناصر ويضع شاشة على رأسي “كبسا بايدك ليوقف الدم لبين ما توصل عالمشفى” ، “عطشان كتير” يدخل ويأتي لي بماء بارد، وبينما ننتظر أرى سيارتي من بعيد تدخل يقودها أحد العناصر، لا أدري كيف أحضروها أو لم أحضروها أصلا، أشعر بأنني على وشك أن أنهار من اليأس،  يسألني العنصر بلطف وهو يشعل سيجارته “خبط راسك ولا هنن ردوا ضربوك جوا؟” “وانا طالع عالمكرو خبط راسي” ، “بعرف شو بيعملو هون.. الله يعينكن… دايخ شي؟” وتعيدني بارقة انسانيته لنفسيتي الطبيعية فأجيب مبتسما ومكابرا “لاء وضعي تمام شكرا” ، “قلّن انك دايخ  وما عم تشوف قدامك” ،  نصمت فأسأله “في اصعب من الظلم؟” … “ان شا الله كم يوم وبتطلع… ما بتطوّل”.. ينفث دخان سيجارته ويرميها مع وصول عنصرين احدهما مسلّح، يضعوا الكلبشة بيديّ وننطلق بالمكرو، “اذا بترفع راسك والله بقوصك”،  حاولت بطرف عيني أن أرى الشارع، نمضي، لنمر بالقرب من منزلي، شعور غريب جدا، أن تمر بالقرب من منزلك ولكن حتى لا تستطيع أن تنظر إليه…

مشهد 7: نمر بساحة باب مصلى وندخل يمينا (مشفى المجتهد) أدخل المشفى فأحاول أن أطمئن نفسي بأنني في مشفى، أرى اطباء بملابسهم البيضاء، الحمد لله، وهناك ممرضة ايضا، يا عيني ياعيني، اذاً سيكون الوضع لطيف الف الحمد لله، يضعونني على السرير.. ليدخل شبيح ربما في أواخر العشرينيات … ذقن وبيجامة رياضة وحذاء رياضة أبيض… شبيح مثالي..

– من وين جابوك؟

– من جامع الايمان بالمزرعة

 – اني مزرعة؟؟

– (مزرعة أبي مثلا!!) المزرعة منطقة بالشام

– ومين هيك ضربك على راسك؟

– واحد بلباس مدني…

– الشبيحة يعني؟ (متحديا)

– (بتعرفو اسمكن كمان!!) ما بعرف مين

أول كف…  تغيب الصورة لأجد نفسي ممددا على السرير… تاني كف… لا شيء سوى طنين متواصل… يشدني من كتفي لأجلس… تالت كف…  بالعادة الكف يؤلم كصفعة، هذه المرة كانت الكفوف تؤلمني لأني اشعر كأن رأسي ارتطم بحدار، “حط عيونك بعيوني” أضعها.. “لك عم تزورني!!!!!” …رابع كف… حط عيونك بعيوني… “لك عم يزورني!!!” …. وأملّ العد.. وأشعر بضعف التركيز أمام الضربات المتوالية على رأس مصاب بالارتجاج،  يأبى إلا أن اضع عيني بعينيه عند كل ضربة… ربما ليكسرها لي… أحاول تمثيل الانكسار كي لا استفزّه…  تستيطع التمثيل بصوتك او بتعابير وجهك، ولكن نظرة عينيك تفضح كل مافي نفسك من غضب… وتأبى إلا أن تجلب لي المزيد من الضربات، ينادي صديقه… ليساعده… أحدهما يصفع من اليمين والآخر من اليسار، أبدأ أفقد التركيز، يدخل الطبيب مخاطبا الشبيح  “لو سمحت بس..” “طلاع ما دخلك” يخرج الطبيب، “قوم وقف ولا” “أقف على قدمي بالكاد” تبدأ تشكيلة لكمات مع دخول الضرب بالركبة على التشكيلة… يتعمد ضربي على اماكن حساسة ضربات تنم عن نية الاذى لا الألم فقط.. ضرب وحشي سريع ومتتالي، اقع على الارض، اصرخ ألما مكتوما.. يرفعاني، يكملان، يضعاني على السرير ويلكمني على بطني وصدري بحقد، ترتطم يده بالكلبشة.. “عم تقحطلي ايدي؟” وينهال بالضرب بوحشية اكثر، فيقترح احد الممرضين “ليش ما بتكلبشو لورا ضهرو مو اريحلك؟” والفضل لله لم يكن معهم مفتاح للكلبشة فلم يستطيعوا

يدخل أحد الاطباء مرة اخرى:

– لو سمحت بس مشان الاصوات

– ولا يهمك

– وكمان لأنو عم يحطو اسماءنا عالفيس بوك

– انت طلاع لبرا وولا يهمك

يضع وجهه ملاصقا لوجهي، “متحطو صورنا عالفيس بوك يا خونة” وينظر متحديا “حفظني… انت مالك طالع من عنا، انا ابو حيدر من الجوية وانت اليوم بدن ينزلوك لعندي وانا بورجيك” وسلسلة جديدة من الضربات… نقلوني بعدها إلى غرفة اخرى وبدؤوا لف رأسي… ألصقوا عينيي بلاصق طبي حتى تنتش الرموش حين نزعها وهم يضحكون، ايادي تمتد لتنتف شعر سكسوكتي… “شو رأيك نتسلى ونحرقلو سكسوكتو” اصوات ضحكات وشتائم حاقدة من هنا وهناك وايادي تتعمد الايلام…

“يالله خالص خدوه”… “راسك لتحت ولااااااك”، يجرني عنصرين من ابطيّ وركبتاي على الارض وشبيح يمشي أمامنا، فجأة أرى كعب حذائه ارتفع ليرتطم بوجهي بقوة، اتألم… يضحكوا… وتتابع ضربات الكعب مع كل عدة خطوات، أحاول ان ارفع رأسي قليلا لأتنبأ برفسة الكعب قبل أن ترتطم بوجهي فأعاقب بضربة أخرى، فجأة يقف ويقوموا بضربي على ظهري ورأسي ضربات لم أستطع أن أشعر بها كاملة لأسمع الشتائم متداخلة وصوتا من بعيد… “تركو تركو شوي أغمي عليه”… أفتح عينيي لأجد نفسي على ظهري والشبيح يصرخ لأقف مجددا، أحاول النهوض فلا أستطيع التوازن.. الدنيا ترتفع من اليمين واليسار وتدور، “انا بشحطو تركو”… يجرني من يدي على الارض وانا على ظهري حتى اصل باب المكرو فيرفعني ويدفعني للداخل “نزيل بين المقعدين” احاول ان احشر نفسي جاهدا بين كرسيي المكرو على الارض فلا اتسع… “نزيل تحتنننن كلك ولااااااك”، ويبدأ الرفس، أحدهم يرفس من ناحية الباب على خاصرتي وحوضي الذي اصبح مكشوفا لأني محشور بين الكرسيين ويدي مقيديتين فلا استطيع تحركيهما، والشبيح الآخر فتح الشباك فوق رأسي وبدأ بضربي من الأعلى… “انا حاركب بالشبوحة”… وألمح بجانب باب المكرو سيارة شبح سوداء… الحمد لله لن يكون هناك ضرب على الطريق، يمشي المكرو ولا أشعر بالوقت، زمامير واصوات.. “معنا واحد”… “وينو”… “ليكو ورا بين الكراسي”… “دخول” يشدوني، ترفع اللصقات من على عيني (بهدوء الشهادة لله)، وتوضع طمّيشة وأدخل لتحقيق مبدئي تمحور حول ” لقينا بالسيارة آي فون… عم تتواصل مع الجزيرة والعربية؟؟!!!”…

مشهد 8: “شلاح اشاطك وشواطات بوطك”… يفتح باب حديد رمادي، يرفع الطميشة عن عيني وأدخل.. بالكاد اجد متسع لقدميي داخل المهجع… “يا شباب حدا يساعدو يغسّل” يقوم شابين يسنداني “على مهلك.. ولا يهمك مشي الحال.. أجر وعافية باذن الله.. الله يكسر ايديهن” أبحث لقدمي عن مكان أضعها فيه، بين رأس هذا وذاك، بين رجل هذا وذاك، واجسام تنهض من الارض لتعاين القادم الجديد… شعور ولحى طويلة تدل على أن اصحابها لم يروا النور منذ اسابيع او اشهر طويلة، وجوه شاحبة وعيون غائرة، ادخل إلى اليسار في نهاية المهجع، غرفة صغيرة على يمينها ملبن لباب كان موجود في أعلاها دوش قديم، حُوّل لمكان ينام فيه ثلاثة اشخاص (حجم الحمام بحجم اي حمام عربي في المدارس او المساجد) وحمامين عربيين، وأمام الابواب مبولة في الحائط، وُصل نربيش في اعلاها لتتحوّل لمكان الشرب والتغسيل لأكثر من مئة معتقل، “غسيل وشك بس دير بالك ما تطرّش مشان لي بدن يناموا هون” المسافة أقل من مترين وبعدها تبدأ الأجسام البشرية المحشورة على الارض، اغسل وجهي بهدوء كي لا تتطاير المياه، احاول ان اغسل الدماء من وجهي ولكن عبثا بقيت المياه التي تسيل بلون احمر، فالحنفية اضعف والمكان اضيق من اي عملية تغسيل.. على ملبن باب الحمام محفور خطوط صغيرة بجانب بعضها، يبدو أن أحدهم كان يحاول تسجيل عدد الأيام، الأسابيع، أو الشهور التي قضاها، وهناك جملة وحيدة على الحائط قرب باب المهجع “منك الفرج يارب   93 يوم”

مشهد 9: يلتف حولي مجموعة، من وين جابوك؟ طلعت اليوم مظاهرات كتير؟ شو حكت الجامعة العربية؟ ذكروا بند اطلاق سراح المعتقلين؟ حيسقط النظام؟ شو اسم الجمعة؟ انا من الحجر الاسود  لسه عم يطلعوا فيها مظاهرات؟ انا من الكسوة… شباب من دمشق وريفها، كثير منهم من داريا، من حلب وادلب ودرعا ودير الزور… شباب صغار ورجال في الاربعين والخمسين والستين… بعضهم اعتقل في دمشق وكثير تم نقلهم برا او حتى جوّا!! ، “سمعت شي عن العفو”… كلّما دخل معتقل جديد يُسأل عن “العفو”…وحان موعد العشاء.. هناك حوالي 12 قصعة للطعام، يتحلّق كل عشرة حول احدى القصعات مع رغيف خبز لكل منهم في كل وجبة، في الايام الاربعة التي قضيتها تم ادخال برتقال لمرة واحدة بحيث تشارك كل ثلاثة او اربعة معتقلين بالبرتقالة… في احدى المرات كان هناك قصعة شوربة لكل عشرة معتقلين، يتناوبون بالرشف منها على التوالي، للقصعات استخدامات أخرى، أهمها أن تستخدم لنقع أقدام المعتقلين العائدين من بساط الريح والدولاب حتى لا تتورم أقدامهم جدا في الايام التالية…

مشهد 10: “يا شباب انقطعت المي وان شا الله تكفينا شرب لبين ما ترجع، رجاءً لا عاد حدا يتوضا تيممّوا تيمم”، تطول الساعات ويزداد العطش ويبدأ تقسيم كميات المياه التي استطعنا حفظها، يدعو أحدهم “يارب ما تتأخر المي.. والله فطسنا” فيجيب آخر “قصدك ان شا الله يجيبا الضابط” “ليش شو دخل الضابط” “هاد مُعتقل… يعني الضابط هو لي قطع المي عن المهجع قصدا”

مشهد 11: يقترب مني رجل حلبي: “اخي بدي انصحك نصيحة، اذا طلعت من هون وبدك ما ترجع لهون… تظاهر، اذا طلعت وبدك ابنك ما يفوت لهون متل ما فتت ويدوق يلي دقتو… تظاهر” بهذه النصيحة شعرت أنه لخّص لي الثورة، ان كان كُتب علينا الأسى فسنسعى حتى لا يعيشه ابناؤنا مهما كلفنا ذلك…

مشهد 12: الساحة الصغيرة امام المهاجع هي التي يتم فيها حفلات الاستقبال والتعذيب، فتسمع اصوات التعذيب 24 ساعة، اصوات استغاثة.. ألم… بكاء… استعطاف…  صراخ… واصوات عصي وكرابيج… وكهرباء… كثيرا ما يتحوّل ألم المعتقلين لأصوات غريبة… تتعالى.. تنخفض… ترجو… والله ما دخلني… والله حكيت كلشي… كرمال الله ما عاد فيني… ببوس رجلك… وصراخ يشبه العواء من شدة الألم… يتعايش المعتقلين مع اصوات التعذيب ومحاولات النوم عليها… ولكن عندما يشتد التعذيب بشكل وحشي ومرعب يهدأ كل من في المهجع لا شعوريا.. يقول احدهم “الفاتحة يا شباب على نية الفرج عنن”.. تلهج الالسن بالقراءة والدعاء… عندما يستدعى احيانا احد المعتقلين للتحقيق يخرج بملابسه ويعود بملابسه الداخلية لا تكاد تستطيع ان ترى لون جلده، ظهره ازرق واحمر واحيانا اسود، لا أدري بماذا كانوا يضربونهم، احيانا يعودون والمياه الباردة على جسدهم، يسارع بعض الشباب لتغطيتهم، في احدى المرات طال صوت صعقة الكهرباء في التعذيب… صرخ المعتقل… استمرت… تابع الصراخ الهستيري.. استمرت.. هدأ الصوت واختفى تماما… ليعلو الصوت من جديد ” الفاتحة على نية الفرج يا شباب”….

مشهد 13: دخلت التحقيق ثلاث مرات،  في التحقيق لا تشاهد إلا إلى الأسفل بسبب الطميشة، لذلك تبدأ بالتعرّف على المحققين من احذيتهم او جزمتهم العسكرية. المرة الأولى كانت سريعة وامام لجنة لأني سمعت عدة اصوات، كانت التهم “تظاهر، توزيع مناشير، التواصل مع العربية والجزيرة، اعطاء زمورين من السيارة كاشارة لبدء المظاهرة” (رغم أنني لم اعتقل من السيارة بس الظاهر هيك خطر على بال المحقق وقت دري انو اعتقلوا معي سيارة… شاف فيها آكشن!!).. يعني باختصار التهم شلف.. ومتل ما بقولوا… يلي ما بيثبت… بعلّم!!! وضعوني مستلقيا على بطني، وجهي على الارض ويدي خلف ظهري، ورجلاي مرفوعتان (فلقة) ضُربت بالعصا عدة مرات. من الملفت أنه لا يوجد اي تنسيق بين عناصر الاعتقال والمحققين، بمعنى آخر المحقق لا يعرف إلا ما تخبره أنت به، بعد ان أخذوا اقوالي بشكل سريع اعادوني للمهجع، بعد عدة دقائق طلبوني مرة أخرى، عندما دخلت (ولأني ارى الارض قليلا) رأيت صديقي على الارض بنفس الوضعية ويتم استجوابه، حاولوا الضغط علينا بمقارنة اقوالنا، أن ترى صديقك بهذه الوضعية ليس أمرا سهلا، وددت أن أضمّه، حاولت أن اطمئن أن جسده سليم، وعندما سمعت صوته قويا كعادته شعرت بدفعة معنويات عالية. بعدها بقليل سمعتهم ينادون اسم صديق آخر من المهجع المجاور فعلمت أنه معتقل أيضا… اكثر ما ينصحك به المعتقلون القدامى “لا تغير اقوالك قد ما عذبوك، اول ما بتغير جملة وحدة بصيروا بعذبوك اكتر” في المرة الثانية لم يكن التحقيق في غرفة بل كان في الساحة، وكان الجو باردا جدا، كان المحقق لطيف جدا معي واعطاني زجاجة عصير برتقال كان فيها ربعها تقريبا لاشربها، اخبرني انه يريد مساعدتي وكلما كنت صريحا واعترفت بكل شيء كلما استطاع اخراجي من هناك بسرعة اكبر لان هذا المكان “للمجرمين” (حسب تعبيره)، كانت اقوالي مطابقة تماما للمرة الأولى، سألني اسئلة كثيرة وتفاصيل عديدة عن حياتي وأسرتي ودراستي وعملي وكل شيء وبالطبع عن يوم الجمعة وما حصل، يسألني في الشرق اجيب في الغرب وهكذا، كان ذلك يوم الأحد ربما بعد منتصف الليل (اتوقع الساعة الثانية ليلا)، في الاثنين وقبل الافطار (ربما حوالي الساعة 8) استدعيت مرة ثالثة وكان التحقيق بالساحة ايضا، هذه المرة استدعيت مع شتائم فعلمت ان ما ينتظرني ليس كالبارحة، خرجت فانهال عليي المحقق (محقق آخر) بالشتائم، قام بضربي بقوة على رقبتي، ثم ادار وجهي ورفع عن عينيّ لأشاهد رجلا بثيابه الداخلية مرمي على الارض وأخبرني أن دوري بعده وسيقوموا بسكب الماء البارد عليي وجلدي (طلعت بس تخويفة)، وضعوني على الارض وضربوني بالعصا على رجليي وكان يطالبني باسماء من شاهدت هناك وكيف عرفت بالمظاهرة، وأخبرني بأن صديقي “أكل قتلة مبارح واعترف بكلشي” (تبين فيما بعد ان ذلك كذب ولم يحصل)، اقوالي كانت مطابقة للمرتين السابقتين، ولكنني لاحظت انه يركز على التفاصيل الصغيرة ويحاول ان يجد اي اختلاف بين اقوالي بين التحقيق اللطيف جدا وبين هذا التحقيق، ولهذا السبب ربما وضعوني في جوين مختلفين كليا، ورأيت حذاء المحقق الذي  حقق معي بلطف الليلة السابقة يقف بجانبه، وكانوا كلما اجبت على سؤال يقتربان من بعضهما ويقلبان اوراق (ضبط تحقيق البارحة) ليطابقا الاقوال… في التحقيق تصل لمرحلة تصرخ صراخ ثابت، احيانا تكون الصرخة اكثر مما يستدعيه الألم بكثير، واحيانا تعجز الصرخة عن مجاراة مقدار ألمك….

مشهد 14: وجهه الطفولي يثير فضولي!! “اديش عمرك؟” ، “17” ، “ليكون أقل وخجلان والله مو مبين عليك 17” فيجيب صديقه بجانبه: “16، انا وياه قد بعض” ، “طب شو تهمتك” ، “تهريب سلاح واغتصاب” … أضحك… فيبتسم ابتسامة خفيفة “والله هي تهمتي”… حقا هذه تهمته!!.. هل يتقصدون الصاق تهمة الاغتصاب بصغار السن، هل يفعلون ذلك كردة فعل لا ارادية ليقنعوا انفسهم ان من امامهم ليس طفلا، أم ليزيدوا من كسر النفوس؟

مشهد 15: اجد مكانا لاجلس فيه فاسارع بالجلوس، “اهلا وسهلا” “بالمهلّي.. من وين الاخ” نتبادل الحديث وأتعرّف على ابو حسان، رجل ربما ناهز الاربعين، غزا شعره ولحيته شيبٌ خفيف، اعتقل أواخر شهر رمضان في مظاهرة أمام جامع لالا باشا في دمشق، متجوز “عندك ولاد؟” ، “عندي تلاتة”  ، “شو اسماءن؟” يعطيني اسمين… ويصمت “التالتة ما بعرف شو سموها… كنت معتقل وقت يفترض تكون اجت” نصمت… نتجرع الحزن.. فأحاول أن اكسر الصمت “بتعرف اذا بنت ولا صبي؟” ، “بالايكو قالولنا انو بنت” ، “تربى بعزّك”… ويملأ الدمع عيني أبو حسان وينهي الحديث “حوقف انا ونملك كم ساعة… شكلك كتير تعبان” ويصرّ ابو حسان على ان يتبرع لي بمكانه لعدة ساعات، اتمدد لأنام بعد ان استعير شحاطة واحد من الشباب كوسادة لانها مستوية وليست كحذائي المائل، ويقف ابو حسان بجانب قدمي في مساحة بالكاد تتسع لقدميه، أنام ساعتين او ثلاث، كلما فتحت عينيّ أراه واقفا في مكانه يبتسم، او اشعر به يتحرك ليطلب من شباب الصف التالي ان يرفعوا اقدامهم قليلا بعيدا عن رأسي “ديرو بالكن يا شباب الاخ آكل ضربة قوية على راسو”… في اليوم التالي حاولت ان اشكره بأن أقدم له حزي البرتقال (حصتي من الفواكه) كعربون امتنان.. يرفض ابو حسان “انت نازف كتير دم ولازم تاكلا”… ابو حسان.. أرجو أن نجتمع مرة أخرى حتى ابارك لك بمولودك… وأقبّل رأسك… يا شهم

مشهد 16: “فلان بدو يقوم عالحمام”… فجأة يتحرك مجموعة من الشباب باتجاهه ليحملوه ويدخلوا الحمام… ذاك المتمدّد في تلك الزاوية باستمرار… مشلول!

مشهد 17: رئيس المهجع مدلّل لدى الحرّاس لأن تهمته هي تجارة المخدرات، يدخل طعامه هو واثنين من رفاقه بشكل منفصل بكميات أكبر مع بعض الاضافات، كما يقوم العسكري باعطائه سيجارة كل فترة لتدخينها أمام الباب، والأروع من ذلك، في الليلة الثانية جاؤوا بثلاثة شباب من الشارع تم اعتقالهم عشوائيا، وبعد أن احضروهم وأثناء “حفلة الاستقبال” تبيّن أنهم في حالة سُكر وأحدهم وجدوا بجيبه حبوب مخدرة، استدعاهم الضابط  في صباح اليوم التالي ليعتذر منهم… “حقكم علينا شباب”، يعود الشباب ليرووا لنا فنحسدهم… نيالكن… ياريتنا منتعاطى… بس تهمتنا نحنا وسخة كتير مو متلكن… تهمتنا سياسية!

مشهد 18: مرة كنت مستلقي فسمعت شابين ورائي يتهامسان {إن للمتقين مفازا* حدائق وأعنابا…} يقضي كثير من المعتقلين وقتهم في حفظ القرآن، حتى ربما من لم يحفظ آية واحدة في حياته، يقتربون من بعضهم كأنهم يتحدثون اتقاءً لشرّ بعض “الفسافيس”، يقرأ الأول بصوت منخفض ليعيد الثاني وراءه وهكذا حتى يحفظ نصف صفحة مثلا، يذهب ليجلس وحيدا ليكررها عدّة مرات ثم يعود ليقرأها أمامه مرة أخرى. لا شك أن للآيات هناك طعم آخر، والكثير أيضا يواظب على الصلاة حتى من لا يصلي في حياته العادية، البعض يذهب ليصلي أمام الحمامات لأنها البقعة الوحيدة التي لا يراها الحارس عندما يفتح “طاقة” الباب، البعض يصلي قاعدا أيضا كي لا يثير الشبهات، في احدى المرات فتح العسكري طاقة الباب بينما كان شاب أمامي يصلي فوقفت أمامه وأخبرته أن لا يركع، أنزل يديه ليوهم الحارس انه واقف بشكل عادي، بقي واقفا حتى انتهى العسكري وأغلق الطاقة فأكمل صلاته.

مشهد 19: يهدأ المهجع نسبيا، وتختفي أصوات التعذيب من الساحة، لينطلق صوت أحد الشباب بشكل منخفض.. عذبا… رائعا… “علّي صوووتك… علّي صوووتك… بالغنااااا” ترتفع الرؤوس لترى وجه ذاك الشاب، أحاول أن ارفع رأسي ولكن لا أقوى.. لأسمع الصوت مرة أخرى “علّي صووووتك… علّي صووووتك” فيردّد أغلب من في المهجع بهدوء وبصوت واحد “بالغناااا” ليكمل الشاب “لسّه الاغاني ممكننة.. ممكنة… ولا انهزاااااام.. ولا انكسااااااار… لا انهزااام… ولا انكسااااار”، أود أن أبكي… أو أن أفتح ذلك الباب اللعين… أن أخرجهم واحدا واحدا… أود… يلعنك يا باب… أذكر كل الوجوه الجميلة في حياتي… لم تزورك الوجوه الجميلة في مثل هذا المكان القميء؟… والديّ… اصدقائي… احبتي… كيف حال صديقيي في المهجع المجاور؟ هل عذبوهم؟ هل ضربوهم؟… يُكمل الغناء… لينثر بروحي ذكرى ومعنى آخر للغناء والأمل… لن أنساه ما حييت… لسّه الاغاني ممكنة

مشهد 20: اقترب مني احد الشباب بعد ان شكونا همومنا لبعض “وقت نطلع بدنا نزور بعض… نحنا صرنا اخوة”…. لا أدري كيف تحوّل هذا المكان الموحش لمكان لأرقّ المشاعر، كثير من الشباب الذين يقضون اسابيع طويلة يصرّوا أن يأخذوا “ذكرى” من المكان.. أحد الشباب كان متخصصا بصنع “مسابح من بزر الزيتون”، يخبئ بقايا زيتون الافطار لعدة أيام حتى تجف، وبعدها يقوم بحكها في زاوية خشنة حتى تصبح بزرة الزيتون ناعمة ويذوب طرفيها ومن ثم يدخل بها خيطا سحبه من قطعة ملابس حتى يكتمل العمل، وبالتأكيد يصنع للمسبحة رأس من عدّة خيطان.. جلست معه لاساعده.. عملنا.. تحدثنا.. وكان صديقنا يدندن..  “قالوا عنا مندسين.. ونحنا غير الله مالنا..  قالوا عنا مسلّحين.. ونحنا رصاصة ما عنا”…

مشهد 21: في الصباح أتى العسكري وتلا خمسة أو ستة أسماء “جيبو غراضكن عالسريع” يضموا من استطاعوا من الموجودين “فُرجت” “الف مبروك” “لا تنسى تشق على اهلي” “لا تنسى الامانة لي امنتك ياها” يخرجوا لتبقى خيبات أمل الموجودين ودمعات حسرة.. أو ألم… كل معتقل في كل لحظة يتوقع ويرجو سماع اسمه، يجلس اصدقاء من خرجوا، يغطي البعض وجهه ويبكي.. يواسوا بعضهم البعض… أتمنى لو استطيع ان اجمع دمعاتهم… أخبئها للوضوء… وهل هناك أطهر من دمعة معتقل؟!

مشهد 22: المكان الذي كنا فيه يعتبر من الطف الاماكن في ذاك الفرع، فهناك ما يسمّى بالزنازن القديمة والجديدة والمنفردات، يشرح لنا أحدهم التعذيب الذي تعرّض له في الزنازن وكيف علقوه من يديه لعدة أيام فيقترب مني شاب دخل يومها “يعني هي الزلازل حياخدونا عليها؟” “اخي الزنازن مو الزلازل… ولاء ان شا الله ما بياخدونا… الله ياخدن”…

مشهد 23: هناك في اعلى الحائط المطل على ساحة التعذيب نوافذ صغيرة، كل يوم نفتحها خلسة لتجديد الهواء (ان استطاع الهواء الدخول منها)، يقوم احد الشباب بفتحه بواسطة خشبة طويلة ربما انتزعوها من باب الحمّام، في احدى المرات وقع خلاف حول فتح الشباك خصوصا بين من دخلوا صيفا (البستهم خفيفة جدا) والآخرين، تم حل الموضوع بالتصويت.. نعم مارسنا الديموقراطية!  يدور في المهجع احاديث جانبية مختلفة “حيردوا عالجامعة العربية؟ بتتوقعوا يصير انقلاب؟ وعن سلمية الثورة وعسكرتها…

مشهد 24: رغم انها المرة الاولى التي ادخل بها معتقلا بحياتي، إلا انني شعرت انني اعرف هذا المكان، ربما من كثرة ما قرأت عن قصص المعتقلين في اقبية مخابراتنا… ربما.. كثيرا ما ترقبت هذه اللحظة… كثيرا ما عرفت أنها ستأتي… الاعتقال تجربة غريبة، تضعف وترتجف فترى نفسك في أضعف حالاتها، وتصبر وتحتسب فترى نفسك في أسمى وأقوى لحظاتها، يهتز ايمانك حتى تخشى ان لا مغفرة لك بعد اليوم، ويشتد يقينك حتى تشعر أنك تلامس ملائكة ربك في أرضه… تارة تشعر بأنك ان سمعت اسمك للتحقيق لن تقوى رجليك على النهوض… وتارة تشعر بأنك تريد أن تذهب وتصرخ على الباب متحديا في وجه العساكر “الله أكبر حريّة”…

مشهد 25: “إبراهيم الأصيل… جيب غراضك (يعني بوطك) وتعا فورا” هذا يعني أنه إما الافراج أو النقل إلى مبنى آخر أو إلى فرع آخر، ولكن من نبرة العسكري تستطيع التوقع، سلّمت على من استطعت اثناء خروجي محاولا تذكّر اكبر عدد ممكن من الاسماء لاطمئن اهلهم، خرجت وكانت تُمطر… استلمت اغراضي والسيارة (كانت ناقصة المسّاحة والبنزين مشفوط إلا شوي)، ركب معي شاب ليدلّني على الباب، فأسأله “حترجع مشي لجوّا؟” ، “انا نازل اذا خرج تنزّلني عطريقك؟” (الشباب ما بيوفروا شي)، اسأله عن المكان “فلافل على كيفك، بس بنزل عالاتوستراد” ، نتبادل الحديث ويسألني عن عملي ودراستي وأسأله ايضا “انا مجنّد وبقيانلي كم شهر” ويطلب نصيحتي بأحد معاهد الحاسوب ليسجّل بها، ارفض  إلا ان انزله بأقرب مكان “الدنيه مطر” ونصمت قليلا وأفكّر… لمَ لم أنزله واعود لأهلي مباشرة! أظنّه كان يفكّر بنفس الموضوع، ويسألتي “برأيك هالناس عم تعمل هيك جهل ولّا عمالة” فأظن انه يحاول استدراجي “اكيد في هيك وفي هيك، بس اكيد مو نص شعبنا عميل، معناتى ما عم نعرف نتواصل معن” ويتابع “برأيك هالمرة الازمة حتمضى؟” (اكلناها) “اكيد حتخلص وترجع سورية اقوى من أول” فيتمتم “انا هالمرة حاسسني قلبي انو لاء” (غريب… هل بدؤوا يستشعرون النهاية!) نصل فيشكرني وينزل، أنظر إلى وجهه فيبتسم دون ان يضع عينيه بعينيّ ويرفع يده مودعا ويمضي… أنظر إلى ساعة السيارة 23:35 … أفكّر يصديقيي الحبيبين هناك… بالشباب الذين تركتهم خلفي… خرجت وبقي شيءٌ منّي… خرجت من نفس الفرع الذي خرج منه غياث مطر وطالب السمرة جثث هامدة… خرجت وهناك خيرة شباب سورية يتعرضون لأقسى ما يمكن أن يتعرض له إنسان… هل انا حرّ الآن؟ وهل كنت حرا قبل أن اعتقل؟….زغرودة… عناق والديّ وأخي… اصدقائي… اتصالات الناس الطيبين… 

ملاحظات:

  • بعض من دخل يومها بقي شهر، بعضهم شهرين، والبعض ما زال مغيّبا حتى هذه اللحظة.
  • عند خروجي كان الجرحين في رأسي وركبتي ملتهبين بسبب الاهمال الطبي، ويمكن مشاهدة حجم القطب التي استخدمها “الطبيب”، فبامكانكم تخيل وضع من يقضي اسابيع او اشهر هناك.
  • رغم كل التعذيب الذي يتعرض له المعتقلين، أقسم بالله لم أرَ معتقلا واحد عليه آثار الانكسار أو الندم.
  • في البداية قررت ان لا اذكر اسم “ابو حيدر” لأني خشيت أن اساهم بتجييش طائفي من حيث لا أدري، ولكن ارتأيت ان الشهادة يجب أن تذكر ما حصل حقا، فالهروب من المشكلة لا يساعد على حلها، خاصة أن المعتقلين ليسوا مئة او مئتين، بل عشرات الألوف، ومعظم المعتقلين يمرون بنفس التجربة فعلينا ان نكون واقعيين ونذكرها لنتوقع ما قد تؤثر في نفسية بعض المعتقلين خصوصا من يتعرض منهم لتعذيب قاسي، فادراك المشكلة جزء من الحل.
  • بالنسبة لوجه “ابو حيدر” والطبيب اللذين اذكر وجوههما جيدا فلا أنكر رغبتي الشديدة بأن ألقاهما مجددا لآخذ حقي بيدي، ولكن أشهد الله أني لن أفعل ولن اسعى لأي قصاص خارج اطار القانون والمحاكم في سورية الجديدة.
  • طبعا هناك في القصة بين كل كلمة وكلمة “كفرية” و “مسبّة” من العيار الثقيل، كلنا نعرفهم، لذا قررت أن احذفهم وبامكانك ان تضع اي مسبة بين اي كلمة وكلمة وغالبا ستكون صحيحة!
  • هناك الكثير من التفاصيل التي اغفلتها كي لا يطول النص، وهناك بعض التفاصيل التي لا اذكرها جيدا خصوصا قبيل وبعيد ضربة الرأس.
  • الصور في الأسفل أُخذت لحظة عودتي للمنزل.
  • الله أكبر حريّة…

This slideshow requires JavaScript.

About Ibrahim al-Assil إبـراهـيـم الأصـيـل

Ibrahim al-Assil is a Syrian political analyst and civil society activist who serves as a resident fellow at the Middle East Institute. He is also a director at the Orient Research Center-DC Office. His work focuses on the Syrian conflict with an emphasis on different aspects of security, civil society, political Islam, and political economy. Al-Assil is the president and a co-founder of the Syrian Nonviolence Movement, an NGO formed in 2011 to promote peaceful struggle and civil resistance as a way to achieve social, cultural, and political change in Syrian government and View all posts by Ibrahim al-Assil إبـراهـيـم الأصـيـل

50 responses to “ومضات من ذاكرة معتقل

Leave a Reply to أبو عبد الرحمن Cancel reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

%d bloggers like this: